مواضيع المدونة

أخبار العربية

الأربعاء، 16 نوفمبر 2011

المحاضرة العاشرة من مقرر فقه 6


السبب الثاني : الغرر

سبقت الإشارة إلى أن الغرر سبب من أسباب فساد البيوع .
الْغَرَرُ في اللغة : اسم مصدر من التَّغْرِيرِ , وهو الْخَطَرُ , وَالْخُدْعَةُ .
وأما في الاصطلاح : فهو ما لا يعرف حصوله أو لا يعرف حقيقته ومقداره .
أي أن عاقبته مجهولة إما لعدمه وإما للعجز عنه وإما للجهل بقدره ووصفه ، فصور الغرر كثيرة ، لكن نحاول معرفتها وضبطها بما يلي :

ينقسم الغرر من حيث تأثيره على العقد إلى : غرر مؤثر في العقد وغرر غير مؤثر .
قال ابن رشد الحفيد : اتفقوا على أن الغرر ينقسم إلى مؤثر في البيوع وغير مؤثر .
شروط الغرر المؤثر :
يشترط في الغرر حتى يكون مؤثراً في العقد الشروط الآتية :
 1 - أن يكون الغرر كثيراً :
يشترط في الغرر حتى يكون مؤثراً أن يكون كثيراً , أما إذا كان الغرر يسيراً فإنه لا تأثير له على العقد . قال القرافي : الغرر والجهالة - أي في البيع - ثلاثة أقسام : كثير ممتنع إجماعاً , كالطير في الهواء , وقليل جائز إجماعاً , كأساس الدار وقطن الجبة , ومتوسط اختلف فيه , هل يلحق بالأول أم بالثاني ؟
وقال ابن رشد الحفيد : الفقهاء متفقون على أن الغرر الكثير في المبيعات لا يجوز وأن القليل يجوز .
وقال النووي : نقل العلماء الإجماع في أشياء غررها حقير , منها :
أن الأمة أجمعت على صحة بيع الجبة المحشوة وإن لم ير حشوها . وأجمعوا على جواز إجارة الدار وغيرها شهراً , مع أنه قد يكون ثلاثين يوماً وقد يكون تسعة وعشرين , وأجمعوا على جواز دخول الحمام بأجرة , مع اختلاف أحوال الناس في استعمال الماء أو مكثهم في الحمام ،قال العلماء : مدار البطلان بسبب الغرر والصحة مع وجوده هو أنه إذا دعت الحاجة إلى ارتكاب الغرر , ولا يمكن الاحتراز عنه إلا بمشقة , أو كان الغرر حقيراً جاز البيع , وإلا فلا .
وقد وضع أبو الوليد الباجي ضابطاً للغرر الكثير فقال : الغرر الكثير هو ما غلب على العقد حتى أصبح العقد يوصف به.
 2- أن يمكن التحرز من الغرر بلا حرج ولا مشقة :
وهذا أيضاً بالإجماع ‑  كما ذكر النووي ‑ فإن الغرر إذا لم يمكن التحرز منه إلا بوجود الحرج والمشقة فإنه معفو عنه .
ويمثِّل العلماء لذلك بأساسات الحيطان وما في بطون الحوامل ؛ فالإنسان يشتري البيت وهو لم يطَّلع على أساساته وقواعده وكيف تم بناؤها ..إلخ ، وكذلك يشتري الحيوان الحامل وهو لا يعرف ما في بطن هذا الحيوان هل هو ذكر أم أنثى أو هو متعدد أو غير متعدد وهل هو حي أو ميت ..إلخ ، فمثل هذا لا يمكن معرفته ولو أردنا أن نعرف مثل هذه الأشياء للزم من ذلك الحرج والمشقة .
وأيضاً من الأمثلة على ذلك ما سيأتي في حديث ابن عمر أن النبي r رخَّص في شراء الثمار إذا بدا صلاحها مع أن آخر هذه الثمار غير معروف ؛ ولأنه فيها ما لم يخلق بعد ولا يعرف كيف يكون نضجها .
 3 - أن يكون الغرر في المعقود عليه أصالة :
يشترط في الغرر حتى يكون مؤثراً في صحة العقد أن يكون في المعقود عليه أصالة .
أما إذا كان الغرر فيما يكون تابعاً للمقصود بالعقد فإنه . لا يؤثر في العقد.ومن القواعد الفقهية المقررة : أنه يغتفر في التوابع ما لا يغتفر في  غيرها ومن أمثلة ذلك :
1 - أنه لا يجوز أن تباع الثمرة التي لم يبد صلاحها مفردة ؛ لنهي النبي r عن بيع الثمار حتى يبدو صلاحها , ولكن لو بيعت مع أصلها جاز , لقول النبي r : ” مَنْ ابْتَاعَ نَخْلًا بَعْدَ أَنْ تُؤَبَّرَ , فَثَمَرَتُهَا لِلْبَائِعِ , إلَّا أَنْ يَشْتَرِطَ الْمُبْتَاعُ “ ([1]) .
وقد نقل ابن قدامة الإجماع على جواز هذا البيع , وقال : ولأنه إذا باعها مع الأصل حصلت تبعاً في البيع , فلم يضر احتمال الغرر فيها .
 2 - لا يجوز بيع الحمل في البطن , لما روى ابن عمر رضي الله عنهما : ” أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ r نَهَى عَنْ بَيْعِ حَبَلِ الْحَبَلَةِ وَكَانَ بَيْعًا يَتَبَايَعُهُ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ كَانَ الرَّجُلُ يَبْتَاعُ الْجَزُورَ إِلَى أَنْ تُنْتَجَ النَّاقَةُ ثُمَّ تُنْتَجُ الَّتِي فِي بَطْنِهَا “ ([2]) ولما روى أبو سعيد t  قال: ” نَهَى رَسُولُ اللَّهِ r عَنْ شِرَاءِ مَا فِي بُطُونِ الْأَنْعَامِ حَتَّى تَضَعَ “ ([3]) .
وعن ابن عمر رضي الله عنهما ”  أَنَّ النَّبِيَّ r نَهَى عَنْ الْمَجْرِ “ ([4]) .
ونقل ابن المنذر والماوردي والنووي إجماع العلماء على بطلان بيع الجنين ; لأنه غرر , لكن لو باع حاملاً بيعاً مطلقاً صح البيع , ودخل الحمل في البيع بالإجماع .
 3 - لا يجوز بيع اللبن في الضرع , لما روى ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال : ” نَهَى رَسُولُ اللَّهِ r أَنْ تُبَاعَ ثَمَرَةٌ حَتَّى تُطْعَمَ , وَلَا يُبَاعَ صُوفٌ عَلَى ظَهْرٍ , وَلَا لَبَنٌ فِي ضَرْعٍ “ ([5]) . ولأنه مجهول القدر ؛ لأنه قد يرى امتلاء الضرع من السِّمَنِ فيظن أنه من اللبن , ولأنه مجهول الصفة , لأنه قد يكون اللبن صافياً وقد يكون كَدِراً , وذلك غرر من غير حاجة فلم يجز , لكن لو بيع اللبن في الضرع مع الحيوان جاز . قال النووي : أجمع المسلمون على جواز بيع حيوان في ضرعه لبن , وإن كان اللبن مجهولاً ; لأنه تابع للحيوان , ودليله من السنة حديث المصراة .
4 - ألا تدعو للعقد حاجة :
 يشترط في الغرر حتى يكون مؤثراً في العقد : ألا يكون للناس حاجة في ذلك العقد , فإن كان للناس حاجة لم يؤثر الغرر في العقد , وكان العقد صحيحاً .
وقد ذكر العلماء قاعدة في ذلك وهي : أن الحاجة العامة تنزل منزلة الضرورة  .
قال ابن تيمية : والشارع لا يحرم ما يحتاج الناس إليه من البيع لأجل نوع من الغرر بل يبيح ما يحتاج إليه الناس من ذلك .
وقول العلماء :  الحاجة العامة تنزل منزلة الضرورة  لابد من تحقق الحاجة وألا يكون هناك مخارج شرعية ، فلابد من ضبط ذلك بتحقق الحاجة وأنه لا مناص من الوقوع في مثل هذا ، فإذا عمَّت الحاجة فإنه كما ذكر الجويني وغيره من أهل العلم تنزل منزلة الضرورة .
ومن الأمثلة على ذلك ما تقدم في حديث ابن عمر أن النبي r ” نَهَى عَنْ بَيْعِ الثِّمَارِ حَتَّى يَبْدُوَ صَلَاحُهَا نَهَى الْبَائِعَ وَالْمُبْتَاعَ “ ([6]) فالنهي عن بيع الثمار حتى يبدو صلاحها ؛ قالوا : هذه حاجة عامة ، فإنه يؤخذ من الحديث أنه إذا بدا الصلاح بحيث احْمرّ البُسْر ([7]) أو اصفَرّ صح البيع ، مع أن بعض أجزاء هذه الثمار لم تخلق وفي هذا شيء من الغرر ، ومع ذلك أجازه الشارع لعموم الحاجة .
قال الكاساني عن خيار الشرط : إن شرط الخيار يمنع انعقاد العقد في حق الحكم للحال فكان شرطاً مُغَيِّراً مقتضى العقد وأنه مفسد للعقد في الأصل , وهو القياس , وإنما جاز بالنص وهو ما ورد أن حبان بن منقذ t كان يغبن في التجارات , فشكا أهله إلى رسول الله r فقال له : ” إذَا بَايَعْتَ فَقُلْ : لَا خِلَابَةَ “ ([8]) وزاد في رواية : ” ثُمَّ أَنْتَ فِي كُلِّ سِلْعَةٍ تَبْتَاعُهَا بِالْخِيَارِ ثَلَاثَ لَيَالٍ “ ([9]) وللحاجة إلى دفع الغبن بالتأمل والنظر .
وقال الباجي : إنما جوز الجُعْلُ ([10]) في العمل المجهول والغرر للضرورة .
وقال النووي : الأصل أن بيع الغرر باطل .لما روى أبو هريرة t:”أًنَّ النَّبِيَّ r نَهَى عَنْ بَيْعِ الْغَرَرِ“ ([11]) والمراد ما كان فيه غرر ظاهر يمكن الاحتراز عنه , فأما ما تدعو إليه الحاجة . ولا يمكن الاحتراز عنه كأساس الدار , وشراء الحامل مع احتمال أن الحمل واحد أو أكثر , وذكر أو أنثى , وكامل الأعضاء أو ناقصها , وكشراء الشاة في ضرعها لبن , ونحو ذلك , فهذا يصح بيعه بالإجماع .
وبعد أن قرر ابن قدامة عدم جواز بيع اللبن في الضرع قال : وأما لبن الظئر ([12]) فإنما جاز للحضانة , لأنه موضع الحاجة .
الفرق بين الضرورة والحاجة :
1- أن الضرورة أشد باعثاً من الحاجة ؛ لأن الضرورة مبنية على فعل ما لا بد منه للتخلص من المسؤولية ، ولا يسع الإنسان تركه ، وأما الحاجة فهي مبنية على التوسع والتسهل فيما يسع الإنسان تركه .
2- أن الحكم الاستثنائي الذي يتوقف على الضرورة هو إباحة مؤقتة لمحظور بنص الشريعة ، تنتهي هذه الإباحة بزوال الاضطرار وتتقيد بالشخص المضطر ، أما الأحكام التي تثبت بناء على الحاجة فهي لا تصادم نصاً ولكنها تخالف القواعد والقياس وهي تثبت بصورة دائمة يستفيد منها المحتاج وغيره .
3- أن الضرورة تبيح المحظور سواء أكان الاضطرار حاصلاً للفرد أم للجماعة بخلاف الحاجة فإنها لا توجب التدابير الاستثائية من الأحكام العامة إلا إذا كانت حاجة الجماعة ، وذلك لأن لكل فرد حاجات متجددة ومختلفة عن غيره ولا يمكن أن يكون لكل فرد تشريع خاص به بخلاف الضرورة فإنها نادرة .   
5 - أن يكون الغرر في عقد من عقود المعاوضات المالية :
وقد اشترط هذا الشرط المالكية فقط وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية , حيث يرون أن الغرر المؤثر هو ما كان في عقود المعاوضات , وأما عقود التبرعات فلا يؤثر فيها الغرر .
قال القرافي : فَصَلَ مالك بين قاعدة ما يجتنب فيه الغرر والجهالة , وهو باب المماكسات والتصرفات الموجبة لتنمية الأموال وما يقصد به تحصيلها , وقاعدة ما لا يجتنب فيه الغرر والجهالة , وهو ما لا يقصد لذلك .
واستدلوا بحديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال : ” كُنَّا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ r إِذْ أَتَتْهُ وَفْدُ هَوَازِنَ فَقَالُوا يَا مُحَمَّدُ إِنَّا أَصْلٌ وَعَشِيرَةٌ وَقَدْ نَزَلَ بِنَا مِنْ الْبَلَاءِ مَا لَا يَخْفَى عَلَيْكَ فَامْنُنْ عَلَيْنَا مَنَّ اللَّهُ عَلَيْكَ فَقَالَ اخْتَارُوا مِنْ أَمْوَالِكُمْ أَوْ مِنْ نِسَائِكُمْ وَأَبْنَائِكُمْ فَقَالُوا قَدْ خَيَّرْتَنَا بَيْنَ أَحْسَابِنَا وَأَمْوَالِنَا بَلْ نَخْتَارُ نِسَاءَنَا وَأَبْنَاءَنَا فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ r أَمَّا مَا كَانَ لِي وَلِبَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ فَهُوَ لَكُمْ “ ([13])
ويرى جمهور الفقهاء أن الغرر يؤثر في التبرعات كما يؤثر في المعاوضات من حيث الجملة , لكنهم يستثنون الوصية .
 الخلاصة :
س / متى تبطل المعاملة بسبب الغرر .
ج / كل معاملة فيها غرر أو جهالة فيما يقصد فهي باطلة .
قول : فيما يقصد قيد مهم جداً وذلك أنه إذا كانت الجهالة في شيئ لا يقصد في البيع وإنما يدخل تبعاً فإن هذا الغرر فيه والجهالة لا تؤثر في صحة البيع كما سبق بيانه .


([1]) رواه البخاري ومسلم .
([2]) رواه البخاري ومسلم .
([3]) رواه ابن ماجه وأحمد والدار قطني وضعفه الألباني .
([4]) رواه البيهقي , وأشار إلى تضعيفه وضعفه يحيى بن معين .
والمَجْرُ : وهو بيع الجنين .
([5]) رواه الطبراني .
قال الزيلعي : روي موقوفاً ومرفوعاً مسنداً , ومرسلاً .
وقال البيهقي : وروي مرفوعاً والصحيح موقوف .
([6]) رواه البخاري ومسلم .
([7]) البُسْر : مرحلة من مراحل التمر ؛ لأن أول التمر  طَلْعٌ ثم خَلاَلٌ ثم بَلَحٌ ثم بُسْرٌ ثم رُطبٌ ثم تَمْرُ.
([8]) رواه البخاري ومسلم .والحلابة : الخديعة .
([9]) رواه ابن ماجه .
([10]) الجعل في  اللغة : اسم لما يجعل للإنسان على فعل شيء  .
وفي الاصطلاح : التزام عوض معلوم على عمل معين معلوم أو مجهول .
([11]) رواه البخاري ومسلم .
([12]) أي المرضعة وقد اتفق الفقهاء : ( الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة ) على جواز إجارة الظئر بأجرة معلومة ؛ , لقوله تعالى : )  وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلَادَكُمْ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إذَا سَلَّمْتُمْ مَا أَتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ (   .
([13]) رواه  أبو داود والنسائي وأحمد وحسنه الألباني وأصله في صحيح البخاري . 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق