في
معرفة ما يعد صنفاً واحداً ، وما لا يعد صنفاً واحداً :
قال
ابن رشد : واختلفوا من هذا الباب فيما يعد صنفاً واحداً وهو المؤثر في التفاضل مما
لا يعد صنفاً واحداً في مسائل كثيرة لكن نذكر منها أشهرها ، وكذلك اختلفوا في صفات
الصنف الواحد المؤثر في التفاضل هل من شرطه أن لا يختلف بالجودة والرداءة ولا باليبس
والرطوبة .
في
معرفة الجنس الواحد .
تقدم
أن الجنس : هو الشامل لأشياء مختلفة بأنواعها . والنوع : الشامل لأشياء مختلفة
بأشخاصها.
وقد
يكون النوع جنساً بالنسبة إلى ما تحته , نوعاً بالنسبة إلى ما فوقه , والمراد هنا
; الجنس الأخص , والنوع الأخص ([1]).
فكل نوعين اجتمعا في اسم خاص , فهما جنس , كأنواع التمر , وأنواع الحنطة . فالتمور
كلها جنس واحد ; لأن الاسم الخاص يجمعها , وهو التمر , وإن كثرت أنواعه , كالبرني
, والمعقلي , والإبراهيمي , والسكري وغيرها .
القول
الراجح في أهم المسائل في باب الربا :
1-
أن البر والشعير جنسان وهو قول الجمهور ([2])
.
والدليل
على ذلك :
حديث
عبادة بن الصامت t حيث قال: قال رسول الله r:” الذَّهَبُ بِالذَّهَبِ وَالْفِضَّةُ بِالْفِضَّةِ وَالْبُرُّ
بِالْبُرِّ وَالشَّعِيرُ بِالشَّعِيرِ وَالتَّمْرُ بِالتَّمْرِ وَالْمِلْحُ
بِالْمِلْحِ مِثْلًا بِمِثْلٍ سَوَاءً بِسَوَاءٍ يَدًا بِيَدٍ فَإِذَا اخْتَلَفَتْ
هَذِهِ الْأَصْنَافُ فَبِيعُوا كَيْفَ شِئْتُمْ إِذَا كَانَ يَدًا بِيَدٍ “ ([3])
فقد جعلهما النبي r جنسين .
وفي
رواية قَالَ : وَأَمَرَنَا أَنْ نَبِيعَ الذَّهَبَ بِالْوَرِقِ وَالْوَرِقَ
بِالذَّهَبِ وَالْبُرَّ بِالشَّعِيرِ وَالشَّعِيرَ بِالْبُرِّ يَدًا بِيَدٍ كَيْفَ
شِئْنَا فَمَنْ زَادَ أَوْ ازْدَادَ فَقَدْ أَرْبَى . ([4])
2-
أن اللحوم والألبان أجناس باختلاف أصولها ، وهو قول الجمهور ([5]).
لأنها
فروع أصول هي أجناس , فكانت أجناساً , كالأدقة .
3-
يصح بيع اللحم بحيوان من غير جنسه كبيع الشاة الحية بلحم الإبل أو البقر وهو قول
الجمهور ([6])
؛ لأنه باع مال الربا بغير أصله .
أما
بيع لحم بحيوان من جنسه فإنه لا يصح إذا أراد بالحيوان اللحم ؛ لأنه إذا أراد به
اللحم اتفقت المقاصد فصار المراد بهذا الحيوان هو اللحم فكأنه باع لحماً بلحم من
غير تساو وهو قول للمالكية ([7]).
4-
أن اللحم والشحم والكبد والرأس والجلد والصوف والعظم والقلب أجناس وهو قول الجمهور([8]).
5-
لا يجوز بيع الحنطة بدقيقها وهو قول الجمهور ([9])
؛ لأن بيع الحنطة بالدقيق بيع للحنطة بجنسها متفاضلاً , فحرم , كبيع صاع بصاعين ;
وذلك لأن الطحن قد فرق أجزاءها , فيحصل في مكيالها دون ما يحصل في مكيال الحنطة ,
وإن لم يتحقق التفاضل , فقد جهل التماثل , والجهل بالتماثل كالعلم بالتفاضل فيما
يشترط التماثل فيه , ولذلك لم يجز بيع بعضها ببعض جزافاً , وتساويهما في الوزن لا
يلزم منه التساوي في الكيل , والحنطة والدقيق مكيلان ; لأن الأصل الكيل , ولم يوجد
ما ينقل عنه , ولأن الدقيق يشبه المكيلات , فكان مكيلاً , كالحنطة , ثم لو كان
موزوناً , لم يتحقق التساوي بين المكيل والموزون ; لأن المكيل لا يقدر بالوزن ,
كما لا يقدر الموزون بالكيل .
6-
فروع الأجناس كالأدقة والأخباز والأدهان
والخلول أجناس باختلاف أصولها وهو قول الجمهور؛ لأنهما من أصلين مختلفين ,
فكانا جنسين , كدقيق الحنطة , ودقيق الشعير.
7-
أنه لا يجوز بيع شيء من مال الربا بأصله الذي فيه منه , كالأدهان بأصولها ,
والعصير بأصله , كعصير العنب , والرمان , والتفاح , والسفرجل , وقصب السكر , لا
يباع شيء منها بأصله وهو قول للمالكية وقول الشافعية والحنابلة ([10])
؛ لأنه مال ربا بيع بأصله الذي فيه منه , فلم يجز , كبيع اللحم بالحيوان.
8-
بيع شيء من هذه المعتصرات بجنسه كبيع عصير البرتقال بعصير البرتقال, فيجوز
متماثلاً . ويجوز بيعه بغير جنسه كبيع عصير البرتقال بعصير التفاح متفاضلاً;
لأنهما جنسان , ويعتبر التساوي فيهما بالكيل ; لأنه يقدر به ويباع به عادة .
9-
أنه لا يباع شيء من الرَّطْب بيابس من جنسه إلا العرايا ([11])
, كالرطب بالتمر , والعنب بالزبيب , واللبن بالجبن , والحنطة المبلولة أو الرَّطْبة
باليابسة , أو المقلية بالنيئة , ونحو ذلك وهو قول الجمهور ([12]).
قال
ابن عبد البر : جمهور علماء المسلمين على أن بيع الرطب بالتمر لا يجوز بحال من
الأحوال .
لحديث
سَعْدِ بْنَ أَبِي وَقَّاصٍ t قَالَ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ r يُسْأَلُ عَنْ شِرَاءِ
التَّمْرِ بِالرُّطَبِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ r : ” أَيَنْقُصُ الرُّطَبُ إِذَا يَبِسَ ؟ قَالُوا نَعَمْ .
فَنَهَاهُ رَسُولُ اللَّهِ r عَنْ ذَلِكَ “ ([13]).
10-
أنه يجوز بيع الرُّطَب بالرُّطَب , والعنب بالعنب ونحوه من الرطب بمثله مع التماثل وهو قول الجمهور ([14])
؛ واستدلوا بما يأتي :
1-
عموم الأدلة الدالة على جواز البيع نحو قوله تعالى ) وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ ( وجه الشاهد: أن ظاهر النص يقتضي جواز كل بيع إلا ما خص بدليل ،
وقد خص البيع متفاضلاً على المعيار الشرعي فبقي البيع متساوياً على ظاهر العموم .
2-
أن مفهوم نهيه r عن بيع الرطب بالتمر ، إباحة بيع كل واحد منهما بمثله .
3-
أن معظم منفعته في حال رطوبته ، فجاز بيع بعضه ببعض قياساً على اللبن .
11-
أن الجيد والرديء والتِّبْر ([15])
والمضروب ([16])
والصحيح والمكسور سواء في جواز البيع مع التماثل وتحريمه مع التفاضل وكذلك الصنعة
ليس لها قيمة وهو قول الجمهور ([17]).
وبناءً
على ذلك: لو أن شخصاً كان عنده ذهب قديم وجاء يشتري به ذهباً جديداً ، أو يبادله
بذهب جديد ، فنقول : إن رسول الله r أوجب عليك
التماثل ، وأوجب عليك التقابض،فلا يجوز أن يقول : هذا ذهب جديد ، وأبيعك الغرامين
منه بأربعة من القديم ، أو الغرام بغرامين من القديم ، ولا العكس أن يقول : هذا
ذهب قديم عزيز وجوده ، ونقشته جيدة ، وصنعته جيدة ، والذي عندك جديد ، فأعطيك
الغرام بالغرامين ، نقول : يجب التماثل .
ويدل
على ذلك:
1-
قولهr:”الذَّهَبُ بِالذَّهَبِ وَزْنًا بِوَزْنٍ تِبْرُهَا([18])وَعَيْنُهَا
([19])والْفِضَّةُ
بِالْفِضَّةِ وَزْنًا بِوَزْنٍ تِبْرُهَا وَعَيْنُهَا“ ([20])
وقد
عَلِمَ r أن هناك ذهباً قديماً يبادل بجديد ومع ذلك لم
يفرق بينهما .
2-
عن أبي الأشعث أن معاوية t أمر ببيع آنية من فضة في أعطيات ([21])
الناس فبلغ عبادة t فقال : ” إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ r يَنْهَى عَنْ بَيْعِ
الذَّهَبِ بِالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ بِالْفِضَّةِ وَالْبُرِّ بِالْبُرِّ
وَالشَّعِيرِ بِالشَّعِيرِ وَالتَّمْرِ بِالتَّمْرِ وَالْمِلْحِ بِالْمِلْحِ
إِلَّا سَـوَاءً بِسَـوَاءٍ عَيْنًا بِعَيْنٍ فَـمَنْ زَادَ أَوْ ازْدَادَ فَقَدْ
أَرْبَى فَـرَدَّ النَّاسُ مَا أَخَذُوا “ ([22])
3-
عن عطاء بن يسار أن معاوية t باع سقاية ([23])
من ذهب أو وَرِق بأكثر من وزنها فقال أبو الدرداء t : ” سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ r يَنْهَى عَنْ مِثْلِ
هَذَا إِلَّا مِثْلًا بِمِثْلٍ “ ثم قدم أبو الدرداء على عمر بن الخطاب رضي الله
عنهما فذكر له ذلك فكتب عمر t إلى معاوية t ” أَنْ لَا تَبِيعَ
ذَلِكَ إِلَّا مِثْلًا بِمِثْلٍ وَزْنًا بِوَزْنٍ
“. ([24])
4-
عن أبي هريرة وأبي سعيد رضي الله عنهما: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ r بَعَثَ أَخَا بَنِي عَدِيٍّ الْأَنْصَارِيَّ وَاسْتَعْمَلَهُ
عَلَى خَيْبَرَ فَقَدِمَ بِتَمْرٍ جَنِيبٍ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ r أَكُلُّ تَمْرِ خَيْبَرَ هَكَذَا قَالَ لَا وَاللَّهِ يَا رَسُولَ
اللَّهِ إِنَّا لَنَشْتَرِي الصَّاعَ بِالصَّاعَيْنِ مِنْ الْجَمْعِ فَقَالَ
رَسُولُ اللَّهِ r لَا تَفْعَلُوا وَلَكِنْ مِثْلًا بِمِثْلٍ أَوْ بِيعُوا هَذَا
وَاشْتَرُوا بِثَمَنِهِ مِنْ هَذَا وَكَذَلِكَ الْمِيزَانُ “ .([25])
وجه
الدلالة : دل الحديث على حرمة مبادلة القديم بالجديد متفاضلاً ، أو مبادلة التمر
جيدها برديئها ، إلا مثلا بمثل .
5-
عن أبي سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ t قَالَ : ” جَاءَ بِلَالٌ t إِلَى النَّبِيِّ r بِتَمْرٍ بَرْنِيٍّ
فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ r مِنْ أَيْنَ هَذَا قَالَ بِلَالٌ كَانَ عِنْدَنَا تَمْرٌ رَدِيٌّ
فَبِعْتُ مِنْهُ صَاعَيْنِ بِصَاعٍ لِنُطْعِمَ النَّبِيَّ r فَقَالَ النَّبِيُّ r عِنْدَ ذَلِكَ أَوَّهْ أَوَّهْ عَيْنُ الرِّبَا عَيْنُ الرِّبَا
لَا تَفْعَلْ وَلَكِنْ إِذَا أَرَدْتَ أَنْ تَشْتَرِيَ فَبِعْ التَّمْرَ بِبَيْعٍ
آخَرَ ثُمَّ اشْتَرِهِ “
وجه
الدلالة :أن النبي r حرم على بلال t أن يبيع التمر الجيد بالتمر الرديء متفاضلاً .
6-
أنهما تساويا في الوزن فلا يؤثر اختلافهما في القيمة كالجيد والرديء .
تنبيهات
:
1-
لو قال الصائغ: هذا ذهب مصنوع ومتعوب عليه ، والذهب الذي عندك غير مصنوع، وأنا أزيد
قدر الصنعة ، يعني قدر تعبي .
نقول
: لا يجوز لأن النبي r قال : ” الذَّهَبُ بِالذَّهَبِ “ ؛ ولذلك جاء صائغ
إلى ابن عمر رضي الله عنهما وسأله عن هذه المسألة بعينها وقال : يَا أَبَا عَبْدِ
الرَّحْمَنِ إِنِّي أَصُوغُ الذَّهَبَ ثُمَّ أَبِيعُ الشَّيْءَ مِنْ ذَلِكَ
بِأَكْثَرَ مِنْ وَزْنِهِ فَأَسْتَفْضِلُ مِنْ ذَلِكَ قَدْرَ عَمَلِ يَدِي
فَنَهَاهُ عَبْدُ اللَّهِ t عَنْ ذَلِكَ فَجَعَلَ الصَّائِغُ يُرَدِّدُ عَلَيْهِ
الْمَسْأَلَةَ وَعَبْدُ اللَّهِ t يَنْهَاهُ حَتَّى انْتَهَى إِلَى بَابِ الْمَسْجِدِ أَوْ إِلَى
دَابَّةٍ يُرِيدُ أَنْ يَرْكَبَهَا ثُمَّ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا : ”
الدِّينَارُ بِالدِّينَارِ وَالدِّرْهَمُ بِالدِّرْهَمِ لَا فَضْلَ بَيْنَهُمَا
هَذَا عَهْدُ نَبِيِّنَا إِلَيْنَا وَعَهْدُنَا إِلَيْكُمْ“.([26])
وجه
الدلالة : استدل ابن عمر رضي الله عنهما بعموم قوله r : ”الدِّينَارُ بِالدِّينَارِ وَالدِّرْهَمُ
بِالدِّرْهَمِ “ ولم يجعل للصنعة أثراً ،
ولا لجودة الذهب تأثيراً .
2-
لو قال قائل : أليس في هذا ظلم أن نساوي بين المصنوع وغير المصنوع أو بين القديم
والجديد ؟
نقول : ليس هناك ظلم ، نقول للرجل : بع الذهب بالنقود
، إذا كان الذهب القديم أو المصنوع قيمته أغلى ، ثم اشتري بالنقود ما شئت من ذهب
جديد ، وذلك مثل ما قال النبي r
: ” بِعْ الْجَمْعَ بِالدَّرَاهِمِ ثُمَّ ابْتَعْ بِالدَّرَاهِمِ جَنِيبًا “ .
وقيل : اللحوم ثلاثة أصناف فلحم ذوات الأربع صنف ، ولحم
ذوات الماء صنف ، ولحم الطير صنف وهو قول المالكية.
وقيل : يجوز مطلقاً وهو قول الحنفية ؛ لأنه باع مال الربا
بما لا ربا فيه , أشبه بيع اللحم بالدراهم , أو بلحم من غير جنسه.
([9]) وقيل :
يجوز وهو قول المالكية ورواية عند الحنابلة ؛ لأن الدقيق نفس الحنطة , وإنما تكسرت
أجزاؤها , فجاز بيع بعضها ببعض , كالحنطة المكسرة بالصحاح , فعلى هذا إنما تباع
الحنطة بالدقيق وزنا ; لأنها قد تفرقت أجزاؤها بالطحن وانتشرت , فتأخذ من المكيال
مكاناً كبيراً , والحنطة تأخذ مكاناً صغيراً , والوزن يسوي بينهما .
([14]) وقيل :
إنه لا يجوز بيع الرطب والعنب بعضه ببعض ، ولو كانا متماثلين ، وهو الأصح عند الشافعية ، وقول للمالكية ، وقول للحنابلة لحديث سعد بن أبي وقاص t السابق ، . ووجه الدلالة: أنه نهى عن البيع ؛ لأجل نقصان الرطب
إذا يبس ، فهذه العلة موجودة في الرطب بالرطب ؛ لأنهما ينقصان إذا يبسا ، فلم يجز
بيع أحدهما بالآخر .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق