مواضيع المدونة

أخبار العربية

الخميس، 5 أبريل 2012

حكم التسعير


حكم التَّسْعِيرِ  في وقت الغلاء .
التَّسْعِيرُ في اللغة :تقدير السعر .
وفي الاصطلاح : هو تقدير سعر الطعام ونحوه بثمن لا يُتجاوز .  
اختلف العلماء رحمهم الله في هذه المسألة على ثلاثة أقوال :

القول الأول :
أنه إذا كان يجلب الطعام إلى البلد ، فالتسعير حرام ، وإن كان يزرع بها وهو عند الغلاء فيها فلا يحرم ، وهو وجه عند الشافعية ، وقول متأخري الحنفية ([1])، وقول عند المالكية ([2])، و قول بعض الحنابلة ([3]).
أدلة أصحاب هذا القول :
1- عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ : قَالَ رَسُولُ r : ” مَنْ أَعْتَقَ شِرْكًا ([4]) لَهُ فِي عَبْدٍ فَكَانَ لَهُ مَالٌ يَبْلُغُ ثَمَنَ الْعَبْدِ قُوِّمَ عَلَيْهِ قِيمَةَ الْعَدْلِ فَأَعْطَى شُرَكَاءَهُ حِصَصَهُمْ وَعَتَقَ عَلَيْهِ الْعَبْدُ وَإِلَّا فَقَدْ عَتَقَ مِنْهُ مَا عَتَقَ “ ([5])
وجه الدلالة : إذا كان الشارع يوجب إخراج الشيء من ملك مالكه بعوض المثل ؛ لمصلحة تكميل العتق ، ولم يمكّن المالك من المطالبة بالزيادة على القيمة ، فكيف إذا كانت الحاجة بالناس إلى التملك أعظم ، وهم إليها أضر ؟ مثل حاجة المضطر إلى الطعام ، والشراب ، واللباس ، وغير ذلك.وهذا الذي أمر به النبي r من تقويم الجميع قيمة المثل:هو حقيقة التسعير.
2- عَنْ جَابِرٍ t  قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ r :”  لَا يَبِعْ حَاضِرٌ لِبَادٍ دَعُوا النَّاسَ يَرْزُقْ اللَّهُ بَعْضَهُمْ مِنْ بَعْضٍ  “  ([6])
وجه الدلالة: إن نهي الحاضر العالم بالسعر أن يتوكل للبادي الجالب للسلعة ، يدل على رفع الضرر عن الناس ؛ لأنه إذا توكل له مع خبرته بحاجة الناس إليه ، أغلى الثمن على المشترى ، فنهاه عن التوكل له مع أن جنس الوكالة مباح ، لما في ذلك من زيادة السعر على الناس .
3- أن القول بعدم التسعير فيه إضرار بالناس ، فإذا زاد تبعه أصحاب المتاع ، وإذا نقص أضر بأصحاب المتاع .
4- أن القول بالتسعير فيه عمل بسد الذرائع ([7])؛لأن البيع إذا كان بهذا السعر يكون  وسيلة للإضرار بالغير وذريعة على المفسدة.
القول الثاني :
أنه لا يجوز التسعير مطلقاً ، وهو الأصح عند الشافعية  ، وقول الحنفية ، والمذهب عند الحنابلة .
أدلة أصحاب هذا القول :
1- قوله تعالى : { وَأَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا }البقرة275
2- قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ }النساء29
وجه الدلالة :تفيد الآيتان إطلاق الحرية للبائع ، والتسعير حجر عليه وإلزام له بصفة معينة، إذ قد لا يكون راضياً به فيكون كالأكل بالباطل .
ونوقش وجه الاستشهاد :بأن التسعير لا ينافي الآية ؛ لأن التسعير إجبار التجار على بيع السلع بسعر مثلها ، وليس فيه أكل أموال الناس بالباطل.
3- عَنْ أَنَسٍ t قَالَ : غَلَا السِّعْرُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ r  فَقَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ سَعِّرْ لَنَا فَقَالَ : ” إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمُسَعِّرُ ([8]) الْقَابِضُ الْبَاسِطُ الرَّزَّاقُ وَإِنِّي لَأَرْجُو أَنْ أَلْقَى رَبِّي وَلَيْسَ أَحَدٌ مِنْكُمْ يَطْلُبُنِي بِمَظْلِمَةٍ فِي دَمٍ وَلَا مَالٍ “  ([9])
4- عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ t  أَنَّ رَجُلاً جَاءَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ سَعِّرْ.فَقَالَ :”  بَلْ أَدْعُو“  ثُمَّ جَاءَهُ رَجُلٌ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ سَعِّرْ .فَقَالَ : ” بَلْ اللَّهُ يَخْفِضُ وَيَرْفَعُ وَإِنِّي لَأَرْجُو أَنْ أَلْقَى اللَّهَ وَلَيْسَ لِأَحَدٍ عِنْدِي مَظْلَمَةٌ “  ([10])
وجه الدلالة : دل الحديثان على عدم جواز التسعير من وجهين :
الوجه الأول : أنه rلم يسعر ، وقد سألوه ذلك ولو جاز لأجابهم إليه .   
الوجه الثاني : أنه r علل بكونه مظلمة ، والظلم حرام .
ونوقش وجه الاستشهاد من وجهين :
1- أن هذه قضية معينة ليست لفظاً عاماً ، وليس فيها أن أحداً  طلب في ذلك أكثر من عوض المثل ، فإذا كان صاحبه قد بذله كما جرت به العادة ، ولكن الناس تزايدوا فيه فهنا لا يسعر عليهم ، والمدينة إنما كان الطعام الذي يباع فيها غالباً من الجلب .
2- أن قوله r : ” إِنِّي لَأَرْجُو أَنْ أَلْقَى رَبِّي وَلَيْسَ أَحَدٌ مِنْكُمْ يَطْلُبُنِي بِمَظْلِمَةٍ فِي دَمٍ وَلَا مَالٍ “  دليل صريح على أن علة ما قرره في أمر التسعير هو مراعاة أن لا يظلم أحداً من الناس  ، سواء كان بائعاً أو مشترياً ، وهو يكون بالمحافظة على ميزان العدالة بينهم ، ولا ريب لو رأى r من الباعة ميلاً إلى هذا الظلم ، لأخذ على أيديهم وألزمهم بحد لا يزيدون عليه.
5- قوله r : ” إِنَّهُ لَا يَحِلُّ مَالُ امْرِئٍ إِلَّا بِطِيبِ نَفْسٍ مِنْهُ “  ([11])
وجه الدلالة : دل الحديث على حرمة مال المسلم قليلاً كان أو كثيراً ، ومنع الزيادة على سعر السوق ، إجبار الناس على البيع بغير ما تطيب به أنفسهم ، فـدل على عدم جواز ذلك .
ونوقش :بأنه عام وقد خُص بأشياء ، كأخذ الزكاة كرهاً ، وكالشفعة ، وإطعام المضطر ، وغير ذلك ، ومنع الزيادة على سعر السوق مصلحة عامة ، فافتقاد طيب النفس لا يؤثر.
القول الثالث :
ليس له أن يبيع بأقل من سعر السوق ، ويمنع من ذلك ، وله أن يبيع بأكثر.وهو قول المالكية .
دليل أصحاب هذا القول :
1- أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ t مَرَّ بِحَاطِبِ بْنِ أَبِي بَلْتَعَةَ t ([12]) وَهُوَ يَبِيعُ زَبِيبًا لَهُ بِالسُّوقِ فَقَالَ لَهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ t : ” إِمَّا أَنْ تَزِيدَ فِي السِّعْرِ وَإِمَّا أَنْ تُرْفَعَ مِنْ سُوقِنَا “ ([13])  
وجه الدلالة : أنه كان يبيع بالدرهم أقل مما كان يبيع به أهل السوق .
ونوقش من وجهين :
1- أنه روي عن عمر بن الخطاب t أنه حاسب نفـسه ، ثم عـاد إلى حاطب وتراجع عما قال له ([14]).
2- أن القصة واردة في البيع بأقل من سعر السوق ، ومحل النزاع إذا باع بأكثر من سعر السوق .  
القول الراحج :
الذي يظهر رجحانه والله تعالى أعلم:هو ما فصله شيخ الإسلام ابن تيمية ‑ رحمه الله ‑ حيث قال : ( ... ومن هنا يتبين أن السعر منه ما هو ظلم لا يجوز ، ومنه ما هو عدل جائز ، فإذا تضمن ظلم الناس وإكراههم بغير حق على البيع بثمن لا يرضونه ؛ أو منعهم مما أباحه الله لهم: فهو حرام. وإذا تضمن العدل بين الناس مثل إكراههم على ما يجب عليهم من المعاوضة بثمن المثل ، ومنعهم مما يحرم عليهم من أخذ زيادة على عوض المثل فهو جائز ، بل واجب ) .     
    ثم ذكر من أمثلة ذلك الجائز : أن يمتنع أرباب السلع من بيعها مع ضرورة الناس إليها إلا بزيادة على القيمة المعروفة ، أو يكون الناس قد التزموا أن لا يبيع الطعام أو غيره إلا أناس معروفون ، لاتباع تلك السلعة إلا لهم ، ثم يبيعونها هم ، فلو باع غيرهم منع ، ثم قال : ( فالتسعير في مثل هذا وأجب بلا نزاع،وحقيقته إلزامهم أن لا يبيعوا أو لا يشتروا إلا بثمن المثل ) .،ولأن ما ذكره شيخ الإسلام يوافق مقاصد الشريعة الإسلامية ، التي تقوم أصلاً على مراعاة العدل بين الناس ، ومراعاة الصالح العام ، وأنه يحتمل الضرر الخاص لآجل دفع الضرر العام .


([1]) وقيدوا ذلك : فيما إذا تعدى التجار عن القيمة تعدياً فاحشاً .وهو أن يبيعه بضعف قيمته .
([2]) وقيدوه بحالة وجود ضرر على العامة وصاحبه في غنى عنه .
([3]) منهم شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم،وقيدوا ذلك:فيما إذا تضمن العدل بين الناس .
([4]) الشِرْكُ في الأصل :مصدر أُطلق على متعلقه وهو العبد المشترك،والمراد به الحصة والنصيب .
([5]) أخرجه البخاري ومسلم .
([6]) أخرجه مسلم .
([7]) وهي عبارة عما أفضت إلى فعل محرم ، ولوتجردت عن ذلك الإفضاء لم يكن فيها مفسدة ، ولهذا قيل : الفعل الذي ظاهره أنه مباح وهو وسيلة إلى فعل محرم .
([8]) أي أنه هو الذي يرخص الأشياء ويغليها،فلا اعتراض لأحد عليه.
([9]) أخرجه : أبو داود والترمذي وقال : حسن صحيح،وابن ماجه ،وابن حبان في صحيحه .
وقال الحافظ في تلخيص الحبير:”  إسناده على شرط مسلم،وقد صححه ابن حبان والترمذي“.
وصححه الألباني .
([10]) أخرجه أبو داود. وصححه الألباني .
([11]) رواه أحمد ،والبيهقي ، والدارقطني .والحديث صححه الألباني بمجموع طرقه .
([12]) هو عمرو بن عمير بن سلمة،اللخمي المكي،حليف بني أسد بن عبد العزى بن قصي ،من مشاهير المهاجرين،شهد بدراً والمشاهد،وكان أحد فرسان قريش في الجاهلية وشعرائها.توفي t سنة (30) هـ .
 ([13]) رواه مالك وعبد الرزاق والبيهقي .
([14]) رواه البيهقي في السنن الكبرى .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق